الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
.تفسير الآية رقم (82): {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}الحق سبحانه وتعالى يُقْسم لرسوله صلى الله عليه وسلم أن واقع الحياة مع فرقتين كاليهود والنصارى سيتجلى واضحاً على الرغم من أن كل جانب منهما مخالف لرسول الله في ناحية، فمواجيد هؤلاء الناس وأهواؤهم مختلفة ولكنهم اتفقوا جميعاً في الهدف.فاليهود أشد عداوة لأنهم أخذوا سلطة زمنية جعلتهم السادة في المنطقة، أما النصارى فلم تكن لهم سيادة ولا سلطة زمنية وكانوا عاكفين في صوامعهم وبيعهم يعبدون الله. والجانب الذي ليس له سلطة زمنية لا يعادي من جاء ليسحب من أهل الجور سلطتهم الزمنية ويقيم العدل بين الناس. فما العلّة في ذلك؟يقول الحق: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً}. و(القسيسون) جمع قَس وهو المتفرغ للعلم الرباني. و(الرهبان) هم الذين تفرغوا للعبادة. فكأن القسيس مهمته أن يعلم العلم. والراهب مهمته أن ينفذ مطلوب العلم ويترهبن.إننا نجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى قد امتن بشيئين وبذلك جعلهم أقرب مودة للذين آمنوا، امتن سبحانه بأن منهم قسيسين يحافظون على علم الكتاب، وامتن بأن منهم رهباناً ينفذون مدلول المطلوب من العلم، وبذلك صاروا أقرب مودة للذين آمنوا إن ظلوا على هذا الوضع؛ لأن العلّة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. وما دام قد عللها سبحانه بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون فذلك لأنهم لا يتطاولون إلى رئاسة وليس لهم تكبر أو ترفع؛ لأن طبيعة دينهم تعطيهم طاقة روحية كبرى حتى إنهم يقولون: (من ضرب على خدّك الأيمن فادر له خدّك الأيسر). وهذا يعطيهم شحنة إيمانية نراها ناضحة عليهم.{ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} وقد جاء واقع الكون مؤيداً لهذا، فمواقف اليهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة حتى إنهم نزلت بهم الخسّة وتمكن منهم الحقد ودفعهم الغدر أن أرادوا أن يقلوا عليه حجراً ليقتلوه وحاولوا دسّ السّم له.وحين تجد إنساناً لا يجد طريقا إلى الخلاص من خصمه إلا بأن يقتله، فيمكنك أن تواجهه قائلاً: أنت لا تملك شجاعة تواجهه بها في حياته، ولو كنت تملك تلك الشجاعة ما فكرت في أن تقتله. وهذا دليل على أنه أضعف منه وليس أشجع منه، فلو كان قوياً لكان عليه أن يواجه هذا الخصم مواجهة في حركة حياته ولا يفكر في قتله؛ لأن الضعيف هو من يرى أن حياة الخصم ترهقه.لقد كان اليهود أهلاً لهذا الضعف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم حينما جهر بدعوته اتبعه بعض الناس، ولكن هؤلاء المؤمنين الأوائل عانوا من اضطهاد أهلهم وذويهم.حتى إن البيت الواحد انقسم. مثال ذلك تجد أن أم حبيبة السيدة رملة وهي بنت أبي سفيان تؤمن بينما والدها شيخ الكفرة آنذاك، وتذهب أم حبيبة مع زوجها إلى الحبشة ويحرص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الخلايا الإيمانية لأنه يعلم أنها ستفرخ الإيمان بعد ذلك. وبتلك الهجرة إلى الحبشة أراد صلى الله عليه وسلم أن يحمي بذور الإيمان لتكون هي مركز انتشار الإيمان من بعد ذلك؛ لأنهم سوف يؤدون مهمة إيمانية، والشجاعة- كما نعلم- تقتضي الحرص. وشاعرنا أحمد شوقي- رحمه الله- قال في إحدى مقطوعاته النثرية التي سمّاها (أسواق الذهب): ربما تقتضيك الشجاعة، أن تجبن ساعة؟وهذه الشجاعة لا تكون على العدو فقط ولكنها تكون شجاعة في مواجهة النفس، مثال ذلك: لو أن جماعة من الأقوياء كانوا جالسين معاً في جلسة سمر، ثم دخل عليهم صعلوك يحمل مسدساً، وقام بتوجيه السباب لكل منهم، هنا يتحايل عليه هؤلاء إلى أن يتمكنوا منه ليعاقبوه.إذن فالشجاعة تقتضي أن يجبن الإنسان لحظة إلى أن يتمكن من الخصم. وهذه هي الكياسة والحيلة، فالإيمان ليس انتحاراً، بل يقتضي الإيمان ألا يدخل المؤمن معركة إلا وعنده حسبان في الكسب. وها هوذا حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يسمي خالد بن الوليد (سيف الله المسلول) في معركة لم ينتصر فيها خالد، ولكنه انتصر انتصاراً سلبياً بأن عرف كيف يسحب الجيش، فالأَمرُ بسحب الجيش يحتاج إلى قوة أكثر مما يحتاج إليه النصر. فالمنتصر تكون الريح معه. أما المهزوم فتكون الريح ضده.ونجد القرآن الكريم يقول: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16].إذن فالمناورة والكيد من المهارة القتالية لأنها تتيح من بعد ذلك القدرة على مواجهة العدو.وينير النور الإلهي بصيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستعرض الأرض كلها حتى يختار مكاناً آمنا يذهب إليه هؤلاء المؤمنون، فيختار الحبشة. لم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالذهاب إلى أي قبيلة من القبائل، لأنه يعلم أن كل قبائل الجزيرة تخشى قريشاً، فموسم الحج جامع للقبائل تحت سيادة قريش. ومن يقف ضد إرادة قريش فسيتعرض للمتاعب، وعلى ذلك لن يأمن رسول الله على خلايا الإيمان أن يذهبوا إلى أي قبيلة. واستقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرض كلها، واختار الحبشة؟ لماذا؟ها هي ذي كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم باقية إلى زماننا: (إن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم به).وفي حديث الزهري: لما كثر المسلمون، وظهر تعذيب الكفار- قال عليه الصلاة والسلام: (تفرقوا في أرض الله فإن الله سيجمعكم، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: إلى ها هنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة).وتسللوا في جنح الليل إلى الطريق متجهين إلى الحبشة. وعندما علمت قريش بالخبر حاولت أن تقطع عليهم الطريق لتعيدهم إلى مكة لتواصل الحملة عليهم والتنكيل بهم لصدهم عن الإسلام. ولكن الحق أراد أمراً مختلفاً وكان الطريق سهلاً، ووصلوا إلى الحبشة، وأنجاهم الله من كيد الكافرين.كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك- بما علمه له ربه- الخبرة الكاملة بالرقعة الأرضية ويعرف من يظلم من الحكام ومن لا يظلم. وصدق رسول الله في فراسته الإيمانية، فحينما ذهب المؤمنون المهاجرون إلى الحبشة وجدوا أنهم دخلوا دار أمن، أمنوا فيها على دينهم. وجن جنون قريش وأرادوا استرداد هؤلاء القوم من النجاشي ملك الحبشة فأرسلوا صناديدهم ومعهم الهدايا والتحف لملك الحبشة.سافر عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، وعمارة بن الوليد بن المغيرة. وطلب وفد قريش من النجاشي أن يسلمهم هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة، وحاولوا الدس للمهاجرين عند النجاشي، فاتهموا المسلمين المهاجرين أنهم قوم تركوا دين الآباء واعتنقوا ديناً جديداً يعادي الأديان كلها. ويقولون في عيسى بن مريم قولاً لا يليق به أو بأمه. ورفض النجاشي أن يصدق حرفاً واحداً، وطلب أن يسمع من هؤلاء المهاجرين. فتقدم جعفر بن أبي طالب وقال: (أيها الملك كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقدف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وترك عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا عليه من الخبائث، فلما قهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، وآثرناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك).وثبت للنجاشي أن المسيح بشهادة القرآن نبي نقي طاهر العرض. وهكذا لم يستمع إلى وشاية وفد قريش. وامتلأ قلب النجاشي بالإيمان ولم يستكبر مع أنه ملك ووقف أمام محاولات قريش للنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.وعندما سمع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.وعرف رسول الله أن الإيمان قد خامر قلب النجاشي، بدليل أن أم حبيبة بنت أبي سفيان عندما هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وتنصر الزوج لكنها بقيت على دينها على الرغم من أنّها كانت تحبه خالص الحب، وهنا انفصلت أم حبيبة عن زوجها وذلك حتى يثبت الحق أن- هجرتها- كانت لله.وأراد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكرمها وأن يكرم النجاشي على موقفه من عدم تسليم المؤمنين إلى وفد قريش وموقفه من أنه شهد للإسلام بأنه يخرج من نفس المشكاة التي خرج منها إنجيل عيسى عليه السلام، لذلك يجعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم ولي نكاحه لأم حبيبة؛ لأنه مأمون على ما عَرَف من الإنجيل، ومأمون على ما سمع من القرآن في مريم، ومأمون على أنه لم يسلم المهاجرين؛ لذلك اختاره وكيلاً عنه في زواجه من أم حبيبة بعد أن تنصر زوجها، وتلك حادثة واحدة أضاءت أكثر من موقف: موقف أم حبيبة التي أثبتت أنها لم تذهب إلى الهجرة تبعاً لزوجها، فلو تبعت زوجها لتنصرّت كما تنصر. وأضاءت أن رسول الله كان لا ينطق عن الهوى حين قال مسبقاً عن النجاشي: إنه لا يظلم عنده أحد. وعندما يبلغ الرسول نبأ وفاة النجاشي فهو صلى الله عليه وسلم يصلي عليه صلاة الغائب.{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].وهذا امتنان من الله بأن جعل منهم القسيسين الذي يعلمون وهذا تكريم للعلم والرهبان الذين ينفذون منطوقات العلم. إذن فلنعلم أننا يجب أن نفرق بين العَالِم الذي قد يُكتفى بأخذ العلم عنه إن لم يكن يعمل به، وأن نحترم الذين يعبدون الله تطبيقاً للعلم بالله ونترك هؤلاء الذين لا يعملون بعلمهم لينالوا جزاءهم، ولكن علينا أن نأخذ بعلمهم ونعمل به.ونجد أن قوله الحق: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} حيثية تجعلهم أقرب مودّة للمسلمين. فهل الرهبانية ممدوحة عند الله؟ وإذا كانت ممدوحة عند الله فلماذا قال سبحانه: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].هو سبحانه يحدثنا عن موكب الرسل إلى أن وصل إلى عيسى عليه السلام وما جاء به من الإنجيل وكيف أودع في قلوب الذين اتبعوه شفقة شديدة ورقة وعطفاً وابتدعوا الرهبانية زيادة منهم في العبادة ولم يفرضها الله عليهم، لكنهم التزموها ابتغاء رضوان الله؛ لكن منهم من حافظ عليها والكثير منهم فسق عنها. وسبحانه حين يفرض أمراً تعبدياً فعلى المؤمن أن يؤديه. ويزيد ثواب المؤمن إن ترقى في التعبديات. لكن إن ترقى الإنسان في التعبد فعليه أن يعطي هذا الترقي حقه لأنّه ألزم به نفسه أمام الله. إذن فالمأخوذ عليهم ليس ابتدع الرهبانية، ولكن عدم رعاية بعضهم لها حق الرعاية.{ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} إذن فمنهم من يرصد حياته للعلم، ومنهم النموذج التطبيقي العملي وهم الرهبان، وليس فيهم الاستكبار أو العلو، وما دام فيهم ذلك فهذا يعني أنهم لا يطلبون السلطة الزمنية. وسيظلون أقرب إلينا مودة ما دامت فيهم هذه الحيثية. فإن تخلوْا عن واحدة منها وأصابوا سلطة زمنية فهذا يعني أنهم تخلوْا عن الصفة التي حكم الله لهم بسببها بأنهم أقرب مودة. وإن تمسكوا بها على العين والرأس.ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِذَا سَمِعُواْ ما أُنزِلَ...}. .تفسير الآية رقم (83): {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)}هذه دقة الأداء القرآني الذي جاء من قبل أن يجهد المفكرون أنفسهم في دراسة ظواهر وأحوال النفس البشرية في مجال علم النفس بالبحث والاستقراء والتجارب، وأثر ذلك في وظائف الأعضاء. لقد قال العلم: إن لكل آلة وظيفة، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتذوق ويتكلم، والأنف يشم، واليد تلمس، وقال العلماء في البداية: إن هذه هي الحواس الخمس الظاهرة، وكلمة (الظاهرة) هذه إنما جاءت للاحتياط؛ لأن هناك أموراً يشعر بها الإنسان ولكن لا يدرك كيفية ولا مصدر شعوره بها مثل الجوع أو العطش، أو في أثناء المقارنة بين شيئين أيهما أكثر ثقلاً.لقد حاول العلماء إدراك كيفية تمييز الإنسان بين ثقل وثقل آخر، فقالوا: إن هناك حاسة اسمها حاسة العضل، فعندما يحمل الإنسان شيئاً ما فإنه يجهد العضلات لدرجة تمكنه من التمييز بين درجات الجهد. وعرفوا أيضاً أن هناك حاسة اسمها حاسة البين، وهي الحاسة التي يميز بها الإنسان درجة نعومة أو سمك أي نوع من القماش حتى ولو كان السمك يبلغ الواحد من العشرة من المللميتر.إذن فهناك حواس كثيرة يمكن للإنسان الإدراك بها، وهناك حواس تترك بعضاً من الأثر في النفس البشرية كآثار الحب والميل أو البغض والنفرة، ومقرها الوجدان. كإدراك حلاوة طعم شيء أو كراهة شيء آخر، فإذا استطاب الإنسان شيئاً أخذ منه مرة ثانية، وهذا العمل هو نزوع يتبع الوجدان الذي يتبع الإدراك.إذن فهناك إدراك يدرك. وهناك وجدان يجد، وهناك نزوع ينزع. مثال ذلك إدراك وردة جميلة المنظر واللون في بستان هذا الإدراك قد يصيب من القلب عشقاً وحباً؛ أي وجداناً، وأنت حر في أن تدرك ما شئت، وأن تجد ما شئت، لكن ليس لك أن تمد يدك لتقطف الوردة؛ لأن الشرع يحرم ذلك. وحارس البستان أيضاً يمنعك من ذلك. هذا على الرغم من أن أحداً لا يمنعك من أن تنظر إلى الوردة وتستمتع بجمالها. فالإدراك- إذن- مباح، والوجدان أمر مباح.أما النزوع فهذا هو الأمر الذي تتدخل فيه الشريعة، ولنا أن نكرر أن الإدراك مباح والوجدان مباح إلا في إدراك جمال الأنوثة، فالشرع يتدخل من البداية. فأنت قد تدرك جمال المرأة فتجد في نفسك حباً وميلاً، فإذا نوعت فكيف يمكنك أن تضبط نفسك؟ فأنت بعد الإدراك والوجدان إما أن تنزع وإما أن تكبت. وإن نزعت انتهكت أعراض الناس، وإن كبت، أصابك القهر والألم؛ لذلك يتدخل الشرع في هذه المسألة من بدايتها فيمنعك تحريماً من أن تدرك، وذلك بأمر واضح وهو غض البصر؛ لأن المسألة الجنسية من الصعب أن تفصلها عن بعضها، فالإدراك يمكن فصله عن الوجدان، والنزوع يمكن فصله عن الوجدان والإدراك في أمر الوردة.أما في المسألة الجنسية فهي سعار.. إما أن يقابله الإنسان بأن يعف وإما أن يلغ. فإن عف الإنسان فهو يكبت ويتوتر، وإن ولغ الإنسان في أعراض الناس فهذا أمر يسبب هتك أعراض الناس. ولذلك يمنع الشرع من البداية مسألة الإدراك.وقد جاءت هذه الآية الكريمة قبل أن يأتي علماء لنفس ليفسروا أمور الإدراك والوجدان والنزوع، فها هوذا الحق يقول: {وَإِذَا سَمِعُواْ} وهذا إدراك بحاسة الأذن. وما المسموع، يجيب القرآن: {ما أُنزِلَ إِلَى الرسول}. وهذا هو سبب الوجدان الذي يأتي في قوله: {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}. فكيف يكون نزوعهم بعد هذا الوجدان؟ إنهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين}، وهذه هي العملية النزوعية. والقرآن الذي نزل من أربعة عشر قرناً، جاء بترتيب الإدراك والوجدان والنزوع قبل أن يأتي به العلم. فساعة سمعوا بالأذن، حدث شيء في الوجدان، والتغير الذي في الوجدان له علامات ظهرت في عيونهم التّي فاضت بالدمع.وهنا نميز بين أمرين: الأول هو اغروراق العين بالدمع، أي أن تمتلئ العين بالدمع لكن لم تصل درجة التأثر إلى أن تسقط الدموع من العين، ويقال: (اغرورقت عين فلان) أي امتلأت عينه بالدموع ولكنها لم تسقط. والثاني وهو فيض الدموع من العين، والفيض لا يكون إلا نتيجة امتلاء الظرف بالمظروف، فكأن الدمع قد ملأها امتلاء، تماماً مثلما نملأ إناء أو كوباً إلى النهاية فيزيد ويفيض.إذن كان سبب كل ذلك أنهم عرفوا أن القرآن من الحق. ونلحظ أن: (مِنْ) تتكرر في الأداء هنا. {وَإِذَا سَمِعُواْ ما أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}. فـ: (من) تسبق من الدمع. و(من) مدغومة في (ما) فصاروا معاً (مما) و(مِن) تسبق الحق.{تَفِيضُ مِنَ الدمع} ف(مِن) هنا هي:(مِن) الابتدائية. و(مما عرفوا) هنا(مِن) السببية أي بسبب أنهم عرفوا أن هذا القرآن منزل من الحق سبحانه. و(من الحق) للتبعيض، أي عرفوا بعضاً من الحق؛ لأنهم لم يسمعوا كل القرآن.إذن جاءت(مِنْ) ثلاث مرات، وكل مرة لها مجال لتؤدي إلى المجموع البياني الذي يصف المظاهر الثلاثة للإدراك والوجدان والنزوع. وهذه المراتب هي مظاهر الشعور التي انتهى إليها العالم التجريبي حين أراد أن يتعرف إلى وظائف الأعضاء ومدى تغلغلها إدراكاً ووجداناً ونزوعاً.والنزوع هو الذي يهمنا هنا، لقد قالوا: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} والإيمان امر يعود إليهم. أما الكتابة مع الشاهدين فهي أمر يعود على الآخرين، فكأن المؤمن ينال حظاً عالياً، إنه يؤمن لذاته، ثم من بعد ذلك يكون وعاءً ولساناً يبلغ منهج الإيمان إلى غيره لأنه لا يكون شاهداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110].أي إنكم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجت للناس لا حسباً ولا نسباً ولكن اتباعاً لمنهج، ومن يتبع المنهج بـ: (افعل) و(لا تفعل) فهو الذي يطبق عملية الإيمان بالله. ومن أهل الكتاب من يؤمن بالله فيصير مسلماً، ولكن الكثير منهم يخرج عن حدود الإيمان. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].إذن فالأمة التي تتبع منهج الإسلام- وهو منهج الاعتدال- هي الأمة المهتدية التي تسير إلى العمل الصالح الصحيح وتعمل به وتطبقه؛ لأنه المنهج الذي ينسخ ما قبله ويصححه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المهيمن على كل من سبقه من الرسل، وحياته وما جاء فيها من سلوك هو سنة إيمانية تهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم. وجاءت في هذه الآية مسألة تحويل القبلة لتعلم المسلمين أن الأمر الأول بالاتجاه إلى بيت المقدس كان اختباراً ينجح فيه من يذعن لصاحب كل أمر وهو الله، وكان ذلك من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله إلى الهداية، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة وهي أول بيت وضعه الله للناس.إذن فمادمنا شهداء، وما دام الرسول شهيداً علينا، فالرسول إنما يشهد أننا بلغنا وننال منزلتين: منزلة تلقى البلاغ عن الرسول، ومنزلة الإبلاغ من بعد ذلك إلى غيرنا من الناس. والمؤمن لا يكون شهيداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه الشهادة التي جاء بها الحق في وصف أمة المؤمنين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110].فأنتم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجها الله للناس بشرط أن تتبعوا المنهج ب (افعل) و(لا تفعل). تأمرون بالطاعات وتنهون عن كل ما نهى عنه الدين، وبذلك تكونون قد طبقتم المنهج الدال على صدق إيمانكم بالله إيماناً صحيحاً صادقاً. ولو صدق أهل الكتاب مثلكم في إيمانكم، لكان خيراً لهم مما هم عليه.لكنّ بعضاً منهم يدير أمر الإيمان في قلبه، والكثير منهم يخرج ويفسق عن مقتضى الإيمان.إذن فهم عندما قالوا: {آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين}، فذلك إقرار بأن الإيمان كان إيمان ذات وإيمان بلاغ إلى الغير. وهم بذلك قد دخلوا الإسلام وصاروا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وها هوذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».وها هوذا الحق يحدد لنا قيمة الكلمة الطيبة المبلغة عن الله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24-25].إن الكلمة الطيبة هي شجرة لها من الثمار ما ينفع الناس وتظل بظلها الحنون سامعها، ولها أصل ضارب الجذور في الأرض. ولها فروع تعلو إلى اتجاه السماء. وتعطي الثمار في كل زمن بإرادة خالقها. وهذا المعنى المحسوس مادياً يضربه الله كمثل للناس حتى يعرفوا قيمة المعاني السامية. إذن سيظل صاحب قوله الحق في بلاغ منهج الإيمان إلى الناس يقطف ثمار هذه الكلمة ما بقي إنسان مؤمن إلى أن نلقى الله.{فاكتبنا مَعَ الشاهدين} والشاهد هو المبلغ. وعندما يطلب مؤمن من الله أن يكتبه مع الشاهدين فهو يطلب لنفسه المكانة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فالشهيد ليس هو من قتل فقط، إنما الشهيد هو من يعطي شهادته. والشهيد في معركة إيمانية تفقه حياته هو إنسان أعطى شهادة على أن ما ذهب إليه إثمن من حياته كلها. وهو في ذلك يعطي شهادة علمية. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ...}.
|